fbpx
مارس 19, 2024 5:12 ص
Search
Close this search box.

سفر الخروج من العولمة

يبدو أن الحقبة الأخيرة من العولمة قد انتهت، إذ بلغت نسبة الصادرات العالمية من السلع والخدمات إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي ذروتها في عام 2008، ثم اتجهت إلى الانخفاض منذ ذلك. وفقاً لـ”البنك الدولي”، وصل الاستثمار الأجنبي المباشر إلى ذروته في عام 2007 حينما لامس الـ5.3 في المئة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي في دول العالم، ثم انخفض إلى 1.3 في المئة مع حلول عام 2020.

كذلك بات أكبر اقتصادين في العالم، الصين والولايات المتحدة، عدائيين بشكل متزايد، مع محاولتهما المتبادلة في تقليل اعتمادهما على بعضهما بعضاً في السلع والخدمات. لم يكونا وحيدين في ذلك المنحى. ومنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، اتخذت تدابير حمائية تفوق تلك التي تتيح الانفتاح الاقتصادي، بمقدار خمسة أضعاف.

وبالطبع، تظل الهجرة قضية مهمة في عدد من البلدان، إذ تعهدت الأحزاب القومية بسحب الجسر المتحرك [بمعنى إيقاف الإجراءات التي تتيح الهجرة] وإبعاد الأجانب. إذاً، يستمر الخروج من العولمة وتفكيكها بشكل ملحوظ.

في خطاب ألقته أخيراً، دعت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، إلى “الاقتصار على دعم الأصدقاء” بمعنى حصر التجارة والاستثمار الأميركيين على الدول التي تشارك الولايات المتحدة في القيم.

وأخيراً أيضاً، ظهر كتابان وضعا إلى حد كبير قبل خطاب يلين، يساعدان في تقييم إن كان الاقتصار على دعم الأصدقاء هدفاً يستحق أن يجري تبنيه ومتابعته.

في كتابها المعنون “العودة إلى الوطن” Homecoming، تعرب المؤلفة رانا فوروهار، الصحافية وكاتبة العمود التجاري في صحيفة “فايننشال تايمز”، عن رأي مفاده أنه لا ينبغي للولايات المتحدة أن تتاجر مع دول كالصين التي لا تشاركها في قيمها، بل قد ترغب أميركا حتى في تقليص التجارة مع دول أخرى لها وضعية مشابهة.

في المقابل، ضمن كتابها المعنون “خرافة العولمة”، تدعي شانون أونيل، نائبة رئيس “مجلس العلاقات الخارجية” والباحثة في شؤون التجارة وأميركا اللاتينية، أنه لم يكن هناك أبداً شيء اسمه العولمة غير المقيدة. فلطالما تاجرت الولايات المتحدة مع جيران ودودين بأكثر مما فعلت مع أنظمة بعيدة ربما تكون معادية.

بعبارة أخرى، لقد اقتصرت معظم التجارة الأميركية بالفعل على دول صديقة. وتصر أونيل على أهمية الحفاظ على التجارة والاستثمار الإقليميين وتعزيزهما. ويتجاهل المؤلفان كلاهما المفهوم القائل بوجود عالم مفتوح تماماً تترابط أجزاؤه مع بعضها بعضاً بالتجارة. ففي رأيهما، باتت العولمة جزءاً من الماضي، وثمة مستقبل من التفتت ينتظرنا.

وبالتأكيد، تعبر ادعاءات الكاتبتين كلتيهما عن وجهة نظر باتت تلقى إجماعاً متزايداً. في المقابل، ثمة كلف هائلة تترتب على التخلي عن العولمة، وسيقع عبئها بشكل غير متناسب على تلك الأطراف التي لم يولِ الكتابان كلاهما اهتماماً كافياً بها، أي الأشخاص الذين يعيشون خارج العالم المتقدم، والشباب، والأجيال القادمة.

استعادة السيطرة

في كتاب “العودة إلى الوطن”، تسلط فوروهار الضوء على عيوب عالم معولم تهيمن عليه بشكل متزايد شركات متعددة الجنسيات تسعى دوماً إلى تحقيق أقصى قدر من الربح، وسلاسل التوريد العالمية التي تركز على فاعلية الإنتاج، ودول كبيرة كالصين التي لا تشارك الولايات المتحدة قيمها.

وترتاد فوروهار منطقة مألوفة في توثيقها تراجع التصنيع التقليدي واختفاء الوظائف المتوسطة الدخل في أميركا نتيجة عمليات كالأتمتة والتعهيد. [في التعهيد، تسند شركات من بلد يكون متقدماً في الغالب، بعضاً من عمليات إنتاج سلعها إلى شريكاتها في بلد آخر غالباً ما يكون في العالم الثالث. مثلاً، تستند شركات صنع الثياب الأميركية في مجموعة كبيرة من خطوط إنتاجها إلى مصانع في باكستان وفيتنام وماليزيا وغيرها].

سفر الخروج من العولمة

استطراداً، تبدي فوروهار قلقها في شأن ارتفاع عدم المساواة في الدخول في العقود الأخيرة، بأثر من آليات العولمة، إذ يتعين على عديد من الأشخاص ممن لا يحوزون شهادات جامعية، العمل في أكثر من وظيفة كي يستطيعوا الإيفاء بالحد الأدنى من متطلبات العيش، مع ما يتضمنه ذلك من خطر مستمر [بعدم القدرة على الاستمرار في تلك الوضعية].

في المقابل، يحقق أصحاب المهارات العالية مداخيل مرتفعة جداً، بالتالي تنحي فوروهار باللائمة في الأمراض التي تعانيها أميركا حاضراً، على العولمة والتركيز المفرط على العوائد المالية، وميل الشركات المتعاظم إلى مركزة الإنتاج بين يديها [بالتالي تقليل عدد الشركات التي تقدر على منافستها].

وبغية مواجهة تلك المسارات، تنادي فوروهار التي لا تتردد في إظهار ميولها التقدمية، بأن يعطي الاقتصاد الأميركي الأولوية لـ”المحلي على حساب العالمي، والسوق المحلية الرئيسة على حساب “وول ستريت” [إشارة إلى البورصة الأميركية لتداول أسهم الشركات العالمية]، وأصحاب المصلحة على حساب من المساهمين، والسوق الصغيرة على حساب الكبيرة”.

أكد عدد من المؤلفين الحاجة إلى زيادة تركيز الفاعلية الاقتصادية على النشاط المحلي (بالتالي توزيعها على نطاق واسع في الداخل) بغية ضخ دماء جديدة في اقتصاد الولايات المتحدة. وبعد تقديمها وصفاً رائعاً للتقنيات الجديدة كالزراعة العمودية والطباعة ثلاثية الأبعاد، تجادل فوروهار بأن ذلك النوع من التطورات، إضافة إلى تقوية قطاعات الخدمات التقليدية كالرعاية الصحية والمنزلية، سوف يتيح للوظائف الجيدة بالابتعاد عن التمركز في المدن الكبرى والتوجه إلى زيادة انتشارها في المناطق شبه الحضرية والمجتمعات المحرومة.

ومثلاً، تستطيع المزارع العمودية المحلية الصغيرة، شرط أن تكون كفؤة، توفير الكثير من الحاجات الغذائية للمجتمع، وخلق وظائف ماهرة، وتخفيض عمليات النقل والتخزين المكلفة والتي تتطلب طاقة كثيفة. وإضافة إلى إعطاء المجتمع الأساس الاقتصادي للاستمرارية في البقاء، يتأتى من توطين الوظائف الجيدة [خارج المدن] فوائد أخرى على غرار توفير أساس متين لدعم مؤسسات كالمدارس وكليات المجتمعات المحلية. وبحسب فوروهار، “زيادة التركيز على السكان المحليين أمر بالغ الأهمية في الواقع لإنقاذ أفضل ما في العولمة”.

بالتالي، من المدهش أن تبدي فوروهار دعماً أقل لعملية تخفيف مركزة السلطة السياسية، رغم انخراطها السريع في النقاش حول كيفية إشراك عامة الناس في الحوكمة، إذ يصح القول بالفعل إن المنافسة الآتية من الأسواق العالمية والوطنية، قد أسهمت في تقويض الأساس الاقتصادي للمجتمعات المحلية.

وفي المقابل، إن عدم التمكين [للسلطات المحلية] الناجم عن مركزية اللوائح ووضع المعايير [من قبل مؤسسات السلطات المركزية] وحل النزاعات التي تصاحب تكامل السوق، قد أسهم أيضاً في تقويض الأساس السياسي للمجتمعات المحلية. ومثلاً، لقد عبر الشعار الذي رافق معركة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي [بريكست]، أي “استعادة السيطرة”، عن استياء البريطانيين من قواعد الهجرة في الاتحاد الأوروبي، وكذلك عبر عن عدم قدرة بريطانيا على رفض عدد لا يحصى من لوائح الاتحاد الأوروبي التي توجب على البلاد قبولها لمصلحة السوق “المنسقة” على المستوى القاري.

واستكمالاً، لقد قدم ذلك الشعار مجالاً للتعبير عن كراهية المجتمعات البريطانية المحلية لإطاعة إملاءات لندن المعولمة. [لقد صوت القلب الاقتصادي للندن الذي تضم جنباته مقار الشركات العالمية الكبرى، بكثافة ضد بريكست، فيما صوتت الأرياف بكثافة لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي].

بالطبع، يحتاج العالم إلى اتفاقات عالمية في التعامل مع المشكلات العالمية، على غرار تغير المناخ، لكن أحياناً، تذهب مثل هذه الاتفاقيات بعيداً، إذ تعطى العولمة الأولوية على حساب رغبات عديد من الناس حينما تضغط الشركات الكبيرة من أجل تناسق سلس بين البلدان التي تعمل فيها.

وتشجع الشركات الكبرى الحكومات على إبرام اتفاقات عالمية تدخلية تفرض التجانس بين الدول من دون موافقة مباشرة من أولئك الذين ستحكمهم تلك الترتيبات. فمثلاً، يعبر أناس كثيرون في البلدان النامية عن استيائهم من اتفاق “جوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة” Trade Related Aspects of Intellectual Property Rights، الذي وقع عام 1994، لأن تدابير الحماية القوية لبراءات الاختراع تزيد كلف الأدوية الأساسية وتضع في الحسبان الأرباح النهائية لشركات الأدوية المتعددة الجنسيات، بالتالي تكون فوروهار محقة حينما تجادل بأن العولمة مناهضة للديمقراطية في الأساس، لكنها تريد تقييد قوة الشركات العالمية، بل حتى الوطنية، ولكن ليس بالضرورة كبح جماح الحوكمة العالمية أو الوطنية. لا تنتقد فوروهار الطابع العالمي لإرساء المعايير وصوغ القواعد.

في الواقع، إنها تدعو إلى مزيد من التنسيق الأميركي مع الأوروبيين في وضع المعايير العالمية، وذلك جزئياً بغية منع الصين من أن يكون لها رأي كبير في معايير المستقبل، لكنها في سياق هذه العملية، لا تؤكد بعض الطرق التي تسحق بها العولمة المصالح المحلية.

وعلى نحو مماثل، داخل بلد ما، تترافق النزعة إلى إنشاء سوق وطنية سلسة، مع سياسات وطنية تضعف قدرة الحكومات الإقليمية والمحلية. في الغالب، تأتي البرامج واللوائح المركزية الموحدة حاملة معياراً واحداً يفترض أنه يناسب الجميع لكنها لا تتناسب غالباً مع الظروف المحلية.

مرة أخرى، لا تشكك فوروهار (بل إنها تفضل) أشكالاً معينة من السياسة الصناعية المركزية في أميركا، بما في ذلك الدفع نحو الاقتصار على دعم الأصدقاء. كذلك تدرك فوروهار أن عديداً من المستهلكين باتوا أفضل حالاً بسبب العولمة، لكنها تريد أن يحصل المنتجون الأميركيون الذين تعني بهم عادة الشركات الصغيرة والعمال، على صفقة أفضل.

ومع ذلك، حتى لو جرى إخفاء تلك الرغبة ضمن عباءة الخطاب حول القيم، فإن أي إجراءات حمائية قد تفيد الشركات الصغيرة والعمال ستقلل في الوقت نفسه من قدرة الشركات الأجنبية على منافسة الشركات [الوطنية] الكبيرة، بالتالي سوف تعمد الشركات الكبرى بشكل حتمي، إلى التلاعب بالسياسات الحمائية لمصلحتها.

في منحى متصل، تكره فوروهار نظام التجارة العالمي الذي يساعد الصين، التي لا تشارك أميركا في قيمها وتلعب وفقاً لقواعدها الخاصة. في المقابل، أثبتت السنوات الأخيرة أن أضمن طريق للتنمية يتمثل في النمو الذي تقوده الصادرات. لقد ساعدت تلك الاستراتيجية الصين، وكذلك الحال بالنسبة إلى اقتصادات أصغر في دول كبولندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان.

لقد تغذى نمو تلك الدول من العولمة، وتسود في معظمها أنظمة استبدادية، بالتالي فإن أي شكل للعولمة اليوم يصر على القيم المشتركة سيكون من شأنه تعطيل آفاق النمو في البلدان النامية الفقيرة التي يوجد في كثير منها حكومات غير مستقرة وغير ديمقراطية. وقد يمنع [الإصرار على القيم في العولمة] بعض تلك الدول من أن تغدو أكثر ديمقراطية.

إذاً، ثمة واقعية كبيرة في تناول الجوانب السلبية للعولمة التي سلط الضوء عليها في كتاب “العودة إلى الوطن”، على غرار العبء غير المتناسب للتكيف [مع مسارات العولمة] الذي يقع على عاتق الأشخاص الذين لديهم قدرة قليلة على تحمله، لكن بعض البلدان تعلمت التعايش مع قوى السوق الدولية.

فمثلاً، سهلت الدول الإسكندنافية التعاون الاستثنائي بين الشركات والنقابات والحكومات الذي يضمن حصول العمال على المهارات اللازمة للوظائف الجديدة حينما تضحى الأعمال القديمة غير قابلة للاستمرار سواء بفعل المنافسة العالمية أو الأتمتة.

من المستطاع مقارنة تلك الجهود بالمحاولات الضعيفة في أميركا لمساعدة العمال ممن فقدوا وظائفهم بسبب التجارة. ربما يستطيع الأميركيون التعلم من نجاحات الآخرين مما يعني أنه في ظل العولمة، يغدو بمكنتهم بالفعل الحصول على كعكتهم وأكلها في الوقت نفسه. [هنالك مثل معروف في الثقافة الأنغلوساكسونية يشير إلى استحالة السعي إلى الشيء ونقيضه، فيشبه ذلك بالسعي إلى أكل الكعكة والحفاظ عليها في الوقت نفسه].

منجم كولتان بالقرب من بلدة روبايا في جمهورية الكونغو الديمقراطية بتاريخ أغسطس 2019
منجم كولتان بالقرب من بلدة روبايا في جمهورية الكونغو الديمقراطية بتاريخ أغسطس 2019 (رويترز)

الأسوار المنخفضة تصنع جيراناً صالحين

بالمقارنة مع فوروهار، تظهر الكاتبة شانون أونيل قناعة أكبر بفضائل التجارة عبر الحدود. في المقابل، تصر أونيل على أن فكرة صنع عالم مسطح ومنسجم بفعل العولمة، ليست سوى خرافة. لم يتشكل العالم أبداً على هيئة سوق متكاملة. وبدلاً من ذلك، تحملت التجارة والاستثمار الإقليميان المسؤولية دوماً عن تجارة البلد، بأكثر من رعايتها التدفقات الآتية من أراضٍ بعيدة أو الذاهبة إليها.

في الواقع، يفترض “نموذج الجاذبية” Gravity Model المعروف على نطاق واسع في ما يتصل بالتجارة، أن الأخيرة تتحرك بين أي بلدين بصورة تتناسب طردياً مع تقلص المسافة بينهما، فكلما قربت المسافة زاد تدفق التجارة بين الطرفين. وكلما ارتفعت الكلف السياسية والاقتصادية للتجارة عبر مسافات بعيدة، تميل الدول إلى الاعتماد على مزيد من الهيكلة الإقليمية، وتوجيه سلاسل التوريد عبر البلدان المجاورة. ومن وجهة نظر أونيل، يقدم ذلك النموذج أفضل ما في العالمين، بمعنى أن يضمن فوائد العولمة مع التخلص من أثقالها على غرار صداع التجارة مع منافسين غير موثوق بهم [كالحال بين الصين وأميركا مثلاً].

بالتالي، تترافع أونيل لمصلحة التجارة الحرة المعولمة على غرار تلك التي صنعها عشرات من الاقتصاديين الليبراليين على مدى عقود طويلة. ومثلاً، تقترح أن خروج التصنيع التقليدي من الولايات المتحدة ليس شيئاً رديئاً بالضرورة. فحينما تؤسس الشركات الأميركية منشآت تصنيع في الخارج، يؤدي ذلك إلى صنع سلع أرخص وأعلى جودة مع فتح أسواق خارجية.

ويملك الأمران كلاهما تأثيراً في توسيع الفرص وخلق فرص عمل في أميركا. بالطبع، لن تستنسخ الوظائف الجديدة تلك التي فقدت، بل لعلها لا ترسى في الأمكنة نفسها أيضاً، بالتالي يجب على العمال التكيف باستمرار، على رغم أن ذلك يشكل حقيقة تبعث على القلق والاضطراب.

واستطراداً، فعلى عكس عديد من الاقتصاديين الليبراليين، لا تستهين أونيل بتلك الكلف [التكيف وقبول وظائف من نوع جديد] كأن تعتبرها أشياء يمكن التعامل معها ببساطة عبر إعادة توزيع الأرباح الآتية من التجارة العالمية، فذلك أمر نادر الحدوث واقعياً. بالأحرى، لطالما توزعت فوائد العولمة بشكل متفاوت، وقد شكل ذلك مبرراً لغضب كثيرين ممن عانوا فقدان وظائفهم أو إفراغ مجتمعاتهم المحلية.

وبحسب أونيل، تتقلص تلك الكلف المؤلمة حينما تجري التجارة على نطاق أكثر إقليمية [بدلاً من أن تكون معولمة أكثر]. فعلى عكس خسارة مليوني وظيفة تصنيعية أو قرابة ذلك في أميركا بسبب استيراد السلع من الصين خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين [مع ما رافقها من مشكلات جمة]، رافق الهدوء عمليات فقدان الوظائف وتأثيراتها المضرة في سلامة المجتمع الأميركي، التي حدثت بموجب اتفاق “التجارة الحرة لأميركا الشمالية” [اشتهر باسم اتفاق نافتا] الذي وقع عام 1994 بين كندا والمكسيك والولايات المتحدة [وهي ثلاث دول متجاورة إقليمياً]. في سياق ذلك الاتفاق، ولدت سلاسل التوريد الإقليمية زيادة في العمل لكل فرد في ذلك الإطار الإقليمي لأن سلاسل التوريد تدخل وتخرج من جميع البلدان المعنية، مستفيدة من المزايا النسبية لكل بلد.

الخروج من العولمة مستمر على قدم وساق

في معدل متوسط، يقدر أن 40 في المئة من السلع التي تستوردها الولايات المتحدة من المكسيك تصنع داخل أميركا نفسها، وينطبق وصف مماثل على 25 في المئة مما تستورده الولايات المتحدة من كندا. على النقيض من ذلك، ففي معدل متوسط أيضاً، لا يصنع سوى أربعة في المئة من المنتج القادم من الصين إلى الولايات المتحدة، داخل أميركا نفسها.

وقد يفسر ذلك واقع أن التجارة مع الصين تترافق مع خسارة في وظائف العمال الأميركيين أكثر من التجارة داخل أميركا الشمالية. بالطبع، لا تأخذ هذه الأرقام في الحسبان أي وظائف تستحدث في الولايات المتحدة خلال المراحل النهائية من الاستيراد كتلك التي تتعلق بالنقل والتجزئة والتمويل، إذ تستحدث بغية مساعدة السلع الصينية الصنع في الوصول إلى المستهلكين الأميركيين.

وكذلك لا تلاحظ تلك الأرقام عينها الوظائف التي يجري إنشاؤها في ما يتعلق بالسلع الأميركية التي تستوردها الصين (لنفكر في طائرات بوينغ). في المقابل، تقدم تلك الأرقام نفسها نموذجاً صافياً عن الفارق بين التجارة على المستوى الإقليمي وتلك التي تجري عبر مسافات شاسعة.

في سياق موازٍ، تجادل أونيل بأن خطر التحركات الأخيرة نحو تفكيك العولمة يتمثل في أن البلدان قد تتخلص من “الطفل الوليد” التجارة الإقليمية مع “مياه الحمام” للعولمة [التي ولدت منها التجارة الإقليمية]، إذ تخشى أونيل أن يحدث هذا على رغم أن الولايات المتحدة مستعدة للاستفادة من الموجة التالية من العولمة التي ستكون مدفوعة بالأفكار والابتكار بالتالي ستفضل اختيار القوى العاملة الأميركية التي تنال أجوراً أعلى وتتمتع بتعليم أفضل وبنسبة شباب مرتفعة نسبياً بين صفوفها.

ميناء بحري في شينزين بالصين بتاريخ مايو 2020
ميناء بحري في شينزين بالصين بتاريخ مايو 2020 (رويترز)

إذاً، تصل فوروهار وأونيل إلى المكان نفسه، الهيكلة الإقليمية للتجارة العالمية، لكنهما تختلفان في كيفية الوصول إلى تلك النقطة، إذ تريد فوروهار من الحكومة دفع الشركات إلى تقليص بصمتها العالمية لأنها تخشى أن الشركات التي تركز على تحقيق أقصى قدر من الربح تصبح غير قادرة على إيلاء أهمية كافية لعنصر المرونة، إذ إنها على أتم الاستعداد لإدارة أجزاء ضعيفة ضمن سلاسل التوريد الخاصة بها عبر الاستعانة بمنافسين استراتيجيين على غرار الصين.

وكذلك تجادل أونيل بأن الشركات عمدت بالفعل إلى تنويع أعمالها على المستوى الإقليمي بغية بناء سلاسل توريد أكثر مرونة. واستطراداً، تعتقد أونيل أن فرض مزيد من الحمائية قد يؤول إلى صنع عوائق أمام عملية الهيكلة الإقليمية، ويوصل الولايات المتحدة إلى وضع سيئ تماماً.

الاحترار العالمي هو عالمي فعلاً

وأياً كانت الأمور، ستحل رؤيتا فوروهار وأونيل في شأن الخروج من العولمة وتفكيكها، برداً وسلاماً على أناس كثيرين، إذ ستؤدي عمليتا الاقتصار على دعم الأصدقاء والهيكلة الإقليمية، إلى تقسيم العالم كتلاً عدة تشمل ظهور كتلة في أميركا الشمالية تتمحور حول الولايات المتحدة، وثانية في شرق آسيا تتمحور حول الصين، إضافة إلى كتلة أوروبية.

ويسلط الكتابان الضوء على فوائد الهيكلة الإقليمية لمن هم في الكتل الإقليمية، لكن ماذا يحدث لبقية العالم؟

يترتب على تفكيك العولمة كلف كثيرة، بعضها واضح بالفعل، إذ تشمل ارتفاع كلفة السلع والخدمات لأن الإنتاج لن يجري في المواقع الأكثر كفاءة، وفقدان الاقتصادات الضخمة القابلة للتوسع تحت تأثير من تجزئة الإنتاج، وزيادة قوة احتكارات القلة المحلية بالترافق مع تقييد المنافسة العالمية، وتدهور عمليات التعلم عبر العمل بالترافق مع امتناع الشركات المتعددة الجنسيات عن نشر أفضل الممارسات، وارتفاع الضغوط التضخمية مع غياب قدرة السوق العالمية على تخفيف الاختلالات في العرض والطلب المحليين.

بدلاً من إعادة النظر في تلك السلبيات، والتفكير في أن العالم لم يعد بوسعه تحمل كلفة تجاهلها، فمن شأن الإمعان في تفكيك العولمة إلى مجموعة من الأطر الإقليمية المعزولة عن بعضها بعضاً، أن يعوق محاولات التعامل مع تغير المناخ الذي يمثل التحدي الوجودي العالمي حاضراً.

وتذكيراً، يتوزع العمل المناخي على ثلاث فئات قوامها التخفيف من الضرر الذي يلحق بالبيئة عن طريق تقليل الانبعاثات، والتكيف مع التغيرات في المناخ، والسماح بالهجرة إلى أماكن ذات مناخ أفضل. تجدر ملاحظة أن ذلك التسلسل مهم، إذ ستتحمل كل فئة في العمل المناخي عبئاً إضافياً إذا لم يجرِ سوى القليل من العمل في الفئة التي تسبقها. ومثلاً، إذا لم تفعل الدول أي شيء على الإطلاق في شأن التخفيف والتكيف، يغدو من المتوقع أن يفر مئات ملايين اللاجئين من أراضيهم الاستوائية الأصلية غير الصالحة للعيش بحثاً عن أراضٍ بعيدة عن خط الاستواء.

وتتطلب أنواع العمل الثلاثة كلها استمرار العولمة. وتقدم الانبعاثات مثلاً عن ذلك، إذ سترافق الآلام كل التزام جاد بإجراء تخفيضات في الانبعاثات. وسيؤدي التنافس الجيوسياسي إلى جعل كل شيء أكثر صعوبة. كيف يمكن للصين والولايات المتحدة الاتفاق على تخفيضات مجدية في الانبعاثات من دون أن يشعر كل منهما بأن الآخر يضمن لنفسه ميزة اقتصادية؟

وبالتأكيد، سيسهل استمرار التجارة والاستثمار بين البلدين ذلك النوع من الاتفاق من خلال منحهما أسباباً ومناسبات إضافية للتحدث وفهم بعضهما بعضاً، إضافة إلى مجموعة كبرى الرقاقات التي يمكن المقايضة بها، على غرار نقل التكنولوجيا هنا مقابل التزام الانبعاثات هناك. كذلك سيجد الجانبان كلاهما أن لديهما ما يخسرانه إذا لم يتعاونا. ويضاف إلى ذلك أن الانفتاح المتبادل، بما في ذلك حرية تنقل رجال الأعمال والسياح والمسؤولين عبر البلدين، سيسهل مراقبة العمل المناخي. وسيؤدي تفكيك العولمة التحميل والتباعد بين البلدين، إلى إيجاد صعوبات جمة في معرفة ما تفعله البلدان الأخرى أو تحجم عن فعله.

استطراداً، ستؤدي الهيكلة الإقليمية إلى إعاقة عمليات الإنتاج والاستثمار والابتكار الضرورية في مسار استبدال عمليات إنتاجية صديقة للمناخ بالإنتاج الذي يولد كثيراً من الكربون. يأتي مثل عن ذلك في إنتاج البطاريات الضرورية في تخزين الطاقة من مصادر الطاقة المستدامة.

يشكل الليثيوم والنيكل والكوبالت المعادن الرئيسة المستخدمة في صنع البطاريات، ومن المتوقع حدوث نقص في النيكل والكوبالت خلال العقد الجاري، وكذلك العناصر الأرضية النادرة المستخدمة في صنع محركات السيارات الكهربائية. وسيتأثر إنتاج البطاريات على الصعيد العالمي إذا لم يحصل صناعها على تلك المعادن إلا من داخل مناطقهم الإقليمية أو من بلدان تتشارك في القيم مع بلدانهم. ويقع جزء كبير من التعدين الحالي لهذه السلع الأساسية في البلدان التي تعاني صراعات كجمهورية الكونغو الديمقراطية، فيما يجري كثير من عمليات التكرير في الصين حاضراً.

إذاً، رغم أن كل منطقة إقليمية سترغب في تقليل الاعتماد المتبادل، فإن عزلتها ستكبدها كلفاً هائلة، إذ ستقلص الهيكلة الإقليمية بشدة من الطاقة الإنتاجية وتزيد كلف الإنتاج في المستقبل المنظور. وفي أثناء ذلك، ستؤدي تلك المعوقات إلى تقليص فرص إبقاء الزيادة في متوسط درجات الحرارة العالمية تحت العتبة الحرجة التي تساوي 1.5 درجة مئوية، بالمقارنة مع درجات حرارة الأرض في زمن ما قبل الصناعة الحديثة.

في نفس مماثل، سيكون التكيف مع تغير المناخ أكثر صعوبة في عالم متجه نحو الهيكلة الإقليمية ومبتعد عن العولمة، إذ سيعقد احترار الكوكب زراعة المحاصيل التقليدية في المناطق الاستوائية باستخدام الأساليب التقليدية، وفق ما اتضح مع الفيضانات التي دمرت باكستان العام الماضي. واستكمالاً، ستقدم المحاصيل الجديدة والتكنولوجيات الجديدة يد العون في تجاوز تلك العقبات لكنها ستتطلب الاستثمار والتمويل. وبالنتيجة، سيكون صعباً على عدد من البلدان النامية غير المنضوية في التكتلات الإقليمية الرئيسة، أن تؤمن التمويل الضروري [في الحصول على المحاصيل والتقنيات الجديدة].

في سياق متصل، فحتى إن بذل المزارعون قصارى جهدهم للتكيف، فستضحى الزراعة غير مربحة بالنسبة إلى كثيرين في المناطق الاستوائية، إذ سيتعين عليهم البحث عن سبل عيش جديدة خارج الزراعة، الأمر الذي سيتطلب تسريع التنمية الاقتصادية. وتتمثل الطريقة الفضلى في تنمية الدول بتصدير ما تنتجه في سياق توجهها إلى النمو، إضافة إلى الاستفادة من الطلب الذي يمكن الاعتماد عليه في البلدان المتقدمة وهي الأقل تضرراً من الاحترار العالمي. وسيؤدي تزايد الحواجز الحمائية في المناطق الإقليمية للبلدان المتقدمة إلى إعاقة النمو في أفريقيا وجنوب آسيا، مما يضع أثقالاً على قدرة شعوبها على التكيف.

تتطلب مكافحة تغير المناخ استمرار العولمة

في مسار مشابه، سيؤدي تقليص سلاسل التوريد بالكامل داخل بلد أو حتى منطقة إقليمية ما [كي تقتصر على الأصدقاء] إلى زيادة تعرض تلك السلاسل لكوارث المناخ وأخطار أخرى، إذ تحتاج زيادة المرونة إلى التنويع الجغرافي. ومن الناحية النظرية، سيعتمد كل جزء من سلسلة التوريد على موردين متعددين عبر مناطق وقارات مختلفة، مما يمنحهم القدرة على التحول بسرعة من التعامل مع مورد تضرر من كارثة مناخية إلى مورد في مكان آخر.

المناخ كتحد معولم بالتعريف

في مثل مثير للاهتمام، بين إنتاج الكمامات الجراحية أثناء جائحة كورونا، وقد تطرقت المؤلفتان إلى ذلك الأمر، قيمة التنويع الجغرافي والمرونة. وتشير أونيل إلى أن الصين تمكنت من السيطرة على السلالات المبكرة لفيروس كورونا بسرعة نسبية. ونتج عن ذلك أن الصين تمكنت من زيادة إنتاج الكمامات فيما غرق العالم في إغلاقات متتالية.

وفي ربيع عام 2020، صدرت الصين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد الكمامات التي جرى صنعها في العالم بأسره في عام 2019. كذلك وصفت فوروهار كيف نظمت مجموعة من مصانع الملابس الأميركية نفسها كي تنتقل إلى إنتاج الكمامات. بمساعدة آلات مستوردة من تايوان وأوروبا، أعيد استخدام سلاسل إنتاج المنسوجات الحالية بمرونة بغية إنتاج الكمامات.

وفي ذلك الصدد، تتوافر أمثلة قوية، لكنها تدعم استمرار العولمة، وليس التجزئة إلى مناطق إقليمية، إذ تستطيع القدرات الإنتاجية في الصين والولايات المتحدة، حينما تتوفر القدرة على إعادة توظيفها وتوسيعها بهدف تزويد سوق عالمية، أن تقدم للعالم مرونة أكبر من أي سوق إقليمية مفردة.

وينطبق وصف مماثل على مسألة إنتاج السلع الأساسية، ولا سيما تلك التي تتمتع بأهمية حاسمة على غرار سلع الغذاء والطاقة. في ذلك المجال، يتمثل أفضل إجراء في ضمان الأمان ضد الاضطرابات بوجود سوق عالمية جيدة الترابط يكون مستطاعاً الوصول إليها بحرية مما يؤدي إلى تخفيف النقص، ومن دون أن يحوز أي منتج بنفوذ لا مبرر له. كلما غدا السوق أكثر ميلاً إلى المحلية والإقليمية، تزيد صعوبة انكشافه أمام ضربات الطقس القاسي أو المنافس الحاقد أو غيرها من الاضطرابات.

بالعودة إلى الإجراءات الثلاثة المترابطة الضرورية لمواجهة التغير المناخي، فحينما يفشل التخفيف والتكيف، سيضطر الناس في المناطق المتضررة بشدة إلى الهجرة. إذا لم تفعل الدول الأخرى سوى القليل في شأن التخفيف والتكيف، فسيكون حجم الهجرة مهولاً بشكل لا سابق له، بالتالي فمن قصر النظر بالنسبة إلى المناطق المتضررة بشكل معتدل، أن تفترض أنها ستعيش بشكل مريح خلف الجدران الحدودية، إذ ستجد تلك المناطق صعوبة في تجاهل المأساة الإنسانية التي تحدث خارج حدودها.

بغض النظر عن مدى رغبة مثل هذه الأماكن في الخروج من العولمة أو الانفصال عن السوق العالمية أو الميل إلى المحلية والهيكلة الإقليمية، فإن لاجئي المناخ اليائسين سوف يتسلقون أو يكسرون الجدران كلها. بدلاً من ذلك السيناريو، يجب على الحكومات التوصل إلى اتفاقات عالمية حول كيفية التعامل مع لاجئي المناخ في البلدان التي تستطيع استيعابهم بشكل أفضل، وكيفية تزويدهم بالتدريب الوظيفي والتعليم اللغوي كي يكونوا منتجين حينما يهاجرون في النهاية. ومجدداً، ستسير تلك المهام في دربها قدماً عبر استمرار العولمة، وليس بالتجزئة الإقليمية.

تراجع كارثي

تقدم أونيل وفوروهار وجهات نظر مختلفة عن فكرة دعم الأصدقاء والاقتصار على التعامل معهم، إذ تريد فوروهار أن تتبع أميركا ذلك النهج على نحو متزايد، بينما تعتقد أونيل أن المسارات الاقتصادية قد دفعت أميركا بالفعل نحو الهيكلة الإقليمية، بالتالي تخشى أونيل أن تؤدي الاتجاهات السياسية إلى مزيد من العزلة المضرة. في ذلك الصدد، يشير لجوء جانيت يلين المعروفة بميلها إلى العولمة، إلى تقديم مشورة تؤيد فيها فكرة الاقتصار على دعم الأصدقاء [يشير] إلى مدى قوة المد السياسي المؤيد للخروج من العولمة.

كخلاصة، يقدم الكتابان مساهمات قيمة في فهم الاتجاهات نحو الهيكلة الإقليمية. ومع ذلك، لا يتناول الكتابان بشكل كافٍ كيف ستؤثر تلك الاتجاهات في التحدي الوجودي لعصرنا المتمثل في ظاهرة تغير المناخ، أو حول ما قد تعنيه الهيكلة الإقليمية بالنسبة إلى العالم النامي. من وجهة نظر أولئك الذين يعيشون في التكتلات الإقليمية الرئيسة، تعتبر الهيكلة الإقليمية مشكلة لأنها تعوق العمل المناخي.

وفي المقابل، يعتبر من هم خارج التكتلات الإقليمية الرئيسة، أن الهيكلة الإقليمية كارثة. واستطراداً، فبمجرد أن تشرع الحمائية التدحرج، يغدو مستطاعاً أن تنتشر بسرعة فائقة. وسيتزايد إيقاع التراجع الكارثي فيصل بسرعة البرق إلى المناطق المسورة بالجدران الحدودية [بمعنى اكتساحه تكتلات الدول المتقدمة]. في مواجهة تهديد وجودي، ستدرك البشرية في النهاية أنها بحاجة إلى عولمة محسنة، وليس إلى الإقلال من العولمة. وكلما تسارع ذلك المسار، يكون ذلك أفضل.

راغورام ج. راجان – اندبندنت عربية

اقرأ أيضا