fbpx
مارس 28, 2024 11:23 ص
Search
Close this search box.

عوده: ألا تشكل الجلسات الفولكلورية إساءة لصورة المجلس ودليلا على تهاوي الممارسة السياسية؟

المطران عوده

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.

بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “نلمس في مثل الغني ولعازر الفقير إحدى المشاكل الاجتماعية الكبرى التي تولد صدامات واضطرابات في المجتمعات البشرية، وهي تكمن في عدم توزيع الغنى بالتساوي، وعدم رحمة الأغنياء للفقراء. فالغنى صنم، والساجدون له كثر، ليس من الأغنياء وحدهم، بل من الفقراء أيضا، لأن المشكلة الجوهرية ليست في امتلاك الغنى، بل في تحويله من هدف للحياة إلى وسيلة للخدمة والعطاء. إن الصورة التي تعطينا إياها قراءة إنجيل اليوم عن حالة الغني وعن لعازر الفقير بعد الموت، تراها عيون القديسين النقية منذ الآن، وسط المظالم الاجتماعية، لأن القديسين ينظرون إلى الباطن لا إلى الظاهر، إلى آخرة الظلم، لا إلى قوته الطاغية. فآخرة الظلم صراخ الغني البائس: “يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني” (لو 16: 24). لكن، ليس الغني عديم الشفقة وحده سيكون معذبا في لهيب جهنم، بل كذلك الفقير عديم الصبر، إبن الغضب، لأنه في عوزه يرى الغنى كأنه الخير الأسمى، فيصل إلى الحسد والبغض تجاه إخوته البشر”.

أضاف: “كان غني المثل عبدا لحب الذات ولأنانيته، مغلقا على نفسه، يتنعم كل يوم مترفها. محبته لنفسه أماتت عاطفته، فلم تهمه حالة لعازر الفقير. إستسلم كليا لراحته وغناه، الأمر الذي لم يمنعه من اتقاء الله، أي الإيمان بوجوده، وحفظ بعض أوامر الناموس. نرى في المثل أنه لم يدن من أجل عدم إيمانه، بل بسبب قلة محبته. هذا ما يؤكده القديس غريغوريوس بالاماس، معلقا على الطريقة التي تكلم بها الغني مع إبراهيم. لقد دعاه “يا أبت إبراهيم”، الأمر الذي يدل على أنه يتقي الله، وعلى أنه لا يتعذب في النار بسبب عدم إيمانه. لقد دخل إلى مكان العذاب كفاقد للرحمة وكمحب للذة، وليس كجاحد. ربما ظن نفسه مؤمنا بالإله الحقيقي، لكنه في الحقيقة كان عابدا للأوثان. عاش في عبودية الأهواء، وتواجد الإيمان مع عبودية الأهواء حالة من الإنفصام الشخصي منتشرة بين البشر. يقول القديس أثناسيوس الكبير: “عاشق الهوى ومحب اللذة ينكر المسيح ويسجد للصنم”، ويتابع رابطا الأهواء المختلفة ببعض الآلهة اليونانية القديمة. مثلا، من تأسره اللذات الجسدية يحوي في ذاته صنم أفروديت ويسجد له، ومن يحب الفضة ويتردد في إعطاء الحسنات ويغلق أحشاءه أمام مصائب الآخرين “يسجد لإرموس الصنم، ويعبد الخليقة بدل الخالق”. لكي يكون الإيمان مستقيما، يجب أن يرتبط مباشرة بالعمل. يقول الرسول يعقوب: “أنا أريك بأعمالي إيماني … الإيمان بدون أعمال ميت” (2: 18 و20).

وتابع: “لا يستطيع أحد أن يرضي أهواءه، وفي الوقت نفسه أن يرجو خلاصه بإيمانه. الإيمان الذي يخلص ليس أفكارا عن الله لا علاقة لها بالسلوك اليومي. الإيمان يخلص عندما يروي كياننا كله ويوجه جميع أنشطتنا، وإلا نختبر انقساما رهيبا في شخصيتنا. هذا الانقسام، الناجم عن الكسل الروحي، كثيرا ما يظهر لابسا وشاح استقامة الرأي. يبرر وجوده بأن الإيمان المستقيم يعطي حرية كبيرة، قد تصل إلى حد الخطيئة، وأن كل ما يهدف إلى ضبط الشهوة بالقوانين والشرائع يضع الحياة في إطار ناموسي ضيق ناتج عن عقلية مبالغة في التقوى. إن الحياة لا يمكن أن تنحصر في القوانين والشرائع، لكن في إمكاننا تحديد دائرة الموت الروحي. كذلك يتعذر علينا تحديد أوصاف المحبة، بما أنها الله ذاته، الساكن في الإنسان: “الله محبة، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه” (1 يوحنا 4: 16). لكن المسيح والأنبياء والرسل أرشدونا إلى الأسباب التي تغلق علينا في سجن الأنانية، وتقضي على المحبة”.

وقال: “يعلمنا المسيح اليوم أن الإيمان لا يخلص إن لم يقترن بالأعمال، ولم ترافقه المحبة، وأن الإيمان قد لا يؤثر على محبتنا للذة وعدم رحمتنا، وهذان يقودان إلى هلاك النفس. بعد موت الغني ولعازر انقلبت الأدوار، فوجد الغني نفسه في العذاب، بينما ذهب لعازر الفقير إلى أحضان إبراهيم، حيث سكنى الفرحين. لم يرتبط عذاب نفس الغني بأهوائه الكثيرة وعدم توبته فحسب، بل أيضا بانعدام حس التوبة لديه. لافت أنه لما وجه كلامه إلى إبراهيم لم يعترف بمسؤوليته تجاه ما وصل إليه، بل اشتكى من آلامه، لذلك ذكره إبراهيم بأنه استوفى خيراته في حياته. إن النفس المقيدة بلذات الجسد تدرك في ساعة موتها أنها مربوطة ومسجونة داخل الجسد. تتعذب وتعاني بما يفوق التصور، بينما الإنسان المنضبط، الذي ساد على رغباته ووحد إرادته بمشيئة الله، يكون ساعة موته هادئا وحرا، يعيش الحضرة الإلهية بالصلاة وينتقل إلى الحالة الجديدة بسلام”.

أضاف: “ينتقل بلدنا في الأيام المقبلة إلى فصل جديد من مسيرته الديمقراطية، أملنا ألا يكون أسوأ من الفصول السابقة التي توالت منذ عقود. دعاؤنا أن تستنير عقول أعضاء الهيئة الناخبة التي تجتمع في مجلس النواب، وأن تنتخب رئيسا يعمل مع جميع الفرقاء كي يصل لبنان إلى السيادة والحرية والوحدة، وإلى مخرج من الجحيم إلى النعيم، لأن الشعب يئس من استبداد طبقة تتحكم بمصيره فتجوعه حينا، وتفقره حينا، وتمرضه وتهجره وتذله أحيانا. أما حان وقت إدراك النواب المسؤولية الوطنية الملقاة على عاتق كل منهم؟ ليتذكروا ما حدث لغني إنجيل اليوم، ويحكموا ضمائرهم قبل فوات الأوان. وجود رئيس على رأس الدولة أمر ضروري، تماما كما هي ضرورية حكومة متجانسة، تعمل وفق رؤية واضحة، وخطة إنقاذية إصلاحية. الجسد بدون رأس يكون معطلا، والرأس بلا أعضاء حية كقائد بلا عناصر، لذا من مصلحة الجميع العمل على انتخاب رئيس، ثم تسهيل تشكيل حكومة ليتناسق العمل ويبدأ البنيان. الجلسات الفولكلورية غير الجدية ألا تشكل إساءة إلى صورة المجلس النيابي، ودليلا على تهاوي الممارسة السياسية؟ أليس تعطيل مسيرة النظام الديمقراطي وإدخال البلد في الفراغ جريمة بحق البلد؟ إن الوطن والدولة والسياسة ليست شعارات نتغنى بها، بل هي سلوك وطني مسؤول. إن المصلحة الوطنية هي الحد الذي تقف عنده الأنانيات والمصالح”.

وختم: “دعوتنا اليوم هي إلى نبذ الأهواء، والتمتع بالمحبة المزروعة داخل كل منا، مثمرين إياها عبر القيام بواجباتنا والاهتمام بإخوتنا”.

اقرأ أيضا